همسات تربوية للآباء والأمهات ودورهما الجوهري في البناء الأسري المتماسك في قرن اللاحدود

همسات تربوية للآباء والأمهات

ودورهما الجوهري في البناء الأسري المتماسك في قرن اللاحدود

 

لا شكَّ أن دور الأسرة هو الدور الأساسيُّ في البناء والتماسك، والمحافظة على كينونة الأسرة من أيِّ فكر دخيل، يخالف أخلاقيات وقيم المجتمع الصحيحة.

 

ولذا اعتنى القرآن الكريم والسنة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وأتم تسليم بهذا الجانب كلَّ الاعتناء؛ لتقوم الأسرة بدورها الذي أُنيط بها، فالكتاب والسنة هما المصدران الأساسيان للشريعة الإسلامية، وما ينبثق منها من تربية إسلامية، موجَّهة هادفة للبناء والتماسك الأخلاقي والقيمي للفرد كإنسان أولًا، ومن ثَمَّ بناء وتماسك الأسرة كنواة مجتمعية واعية لدورها الذي أُنيط بها؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]؛ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [التحريم: 6]: “علِّموهم، وأدِّبوهم”.

 

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في عموم الآية الكريمة: “قال بعض السلف: معنى ذلك: اتقوا الله، وأوصوهم بتقوى الله، وقال بعضهم: علِّموهم وأدبوهم، والمعنى متقارب، المعنى: خذوا على أيديهم، وجوههم إلى الخير، ألزموهم بالحق، حذروهم من الباطل؛ حتى يستقيموا على هدى الله جل وعلا، رزق الله الجميع التوفيق والهداية”.

 

وقال الله تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 – 10].

 

قال السعدي رحمه الله: “﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾ [الشمس: 7] يحتمل أن المراد نفس سائر المخلوقات الحيوانية، كما يؤيد هذا العموم، ويحتمل أن المراد بالإقسام بنفس الإنسان المكلَّف، بدليل ما يأتي بعده، وعلى كلٍّ، فالنفس آية كبيرة من آياته التي حقيقة بالإقسام بها؛ فإنها في غاية اللطف والخفة، سريعة التنقل والحركة، والتغير والتأثر والانفعالات النفسية، من الهمِّ، والإرادة، والقصد، والحب، والبغض، وهي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثال لا فائدة فيه، وتسويتها على هذا الوجه آية من آيات الله العظيمة، وقوله: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾ [الشمس: 9]؛ أي: طهَّر نفسه من الذنوب، ونقَّاها من العيوب، ورقَّاها بطاعة الله، وعلَّاها بالعلم النافع والعمل الصالح، ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 10]؛ أي: أخفى نفسه الكريمة، التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها، بالتدنُّس بالرذائل، والدنو من العيوب، والاقتراف للذنوب، وترك ما يكملها وينميها، واستعمال ما يشينها ويدسِّيها”.

 

هذان موضعان من كتاب الله عز وجل، وجَّه الله فيهما الإنسان لتزكية نفسه وتطهيرها من الدَّنَس، وكذلك تزكية وتطهير الأسرة في العموم؛ ففي الموضع الأول في سورة التحريم نصًّا، وفي الموضع الثاني في سورة الشمس ضمنًا؛ فمن زكَّى نفسه أولًا أولى له أن يزكي أسرته، فالوالدان هما المسؤولان عن رعاية وتربية وتزكية الأسرة وأفرادها، وثانيًا للحفاظ وسلامتها من الانحراف الفكري والأخلاقي والقيمي.

 

وكذلك وردت نصوص السنة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وأتم تسليم بذلك في عدة مواضع؛ منها:

قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيته، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلُّكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته))؛ [متفق عليه].

 

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح هذا الحديث نختصره فيما يتعلق بالوالدين؛ قال: “الرجل راعٍ لكن رعيته محصورة، راعٍ في أهل بيته، في زوجته، في ابنه، في بنته، في أخته، في عمته، في خالته، كل من في بيته، هو راعٍ في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، يجب عليه أن يرعاهم بأحسن رعاية؛ لأنه مسؤول عنهم، وكذلك المرأة راعية في بيت زوجها وولده ومسؤولة عن رعيتها… إلى أن قال رحمه الله: مسؤولة أيضًا عن أولادها في إصلاحهم وإصلاح أحوالهم وشؤونهم”.

 

قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانِهِ، أو ينصِّرانِهِ، أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تُحِسُّون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [الروم: 30]))؛ [رواه البخاري ومسلم].

 

ويقول الله عز وجل في الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم)).

 

ففي هذا الحديث القدسي، يبيِّن الله صراحةً أن المولود يُولَد على الفطرة، وهي تقبل الحق والإذعان له والانقياد له، ما لم تجد من ينحرف بها عن ذلك، من خلال البيئة والتنشئة التي تعرض لها المولود في تلك البيئة، ابتداءً بالوالدين، فهما المسؤولان الأساسيان للمحافظة على هذه الفطرية السوية للمولود؛ لذا قال صلى الله عليه وسلم: ((فهما يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه))؛ فينحرف المولود عن أصل الخلقة، ولم يقل صلى الله عليه وسلم “يسلمانه”، لماذا؟

 

لأن المولود في الأصل على فطرة الإسلام؛ ذلك الدين القيم، وكذلك تفعل الشياطين من الجن والإنس أفعالها الشيطانية في اجتيالهم؛ أي انحرافهم عن الفطرة السوية المخلوقين عليها في الأصل، ويكون ذلك إذا لم يقُمِ الولدان بدورهما الجوهري للمحافظة على هذه الفطرة وتوجيهها وتقويمها.

 

وهنا يبرز جليًّا دور الوالدين في المحافظة على تلك الفطرة السوية في الأولاد من خلال تعهدهم والقيام بالدور المنوط بهم؛ ليكونوا أعضاء صالحين في أنفسهم أولًا، ثم مصلحين في مجتمعهم ثانيًا.

 

وأخيرًا من السُّنَّة في هذا المجال ما روى الإمام أحمد، عن زيد بن أرقم قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والهَرَم والجبن والبخل، وعذاب القبر، اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يُستجاب لها، قال زيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمناهُنَّ ونحن نُعلِّمكموهن)).

 

ويتضح هنا من هذا الحديث الدورُ التربويُّ للنبي صلى الله عليه وسلم مع أتباعه وأصحابه صغارًا وكبارًا، وذلك من خلال تنوع الوسائل والوسائط المستخدمة في إيصال الهدف المنشود، وهنا كان من خلال التعليم المباشر منه صلى الله عليه وسلم لهم في حفظ هذه الكلمات وتدريبهم عليها، وفهم معانيها، وهو قريب منهم صلى الله عليه وسلم، محيط لهم بالبشاشة والترحاب، حتى إنهم حرصوا على نقل ذلك للأولاد؛ اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأداءً للواجب المنوط بهم في تزكية أنفسهم وأولادهم وأهل بيتهم؛ لذا قال زيد: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمناهن”؛ أي: يعلِّم الصحابة رضي الله عنهم، “ونحن نعلمكموهن”.

 

قلت: فهذا كان في الجيل الفاضل الذي تربَّى على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهل من المنبع الصافي، الذي لا غبش فيه ولا كدر، ثم قام بالدور المنوط به في مجال تربية الأسرة، فقرأنا في التاريخ كيف تحوَّل العالم في أقل من ربع قرن إلى أمة رائدة في جميع المجالات، محافظة على أخلاقها وقيمها ومبادئها، ناشرة لذلك في كل البقاع؟

 

فكيف يكون الحال في وضعنا الحالي العابر للحدود، من أصحاب النفاذ والداخل إلى أعماق أفراد الأسرة، كبارًا وصغارًا، وهم في عقر بيوتهم، في ظل وجود ضعف من كثير من الوالدين للقيام بدورهما الأسري المنوط بهما في المحافظة على البناء المتماسك للأسرة؟ لماذا؟

 

لأن كلًّا من أولئك الوالدين مشغول بنفسه، منغمس في اهتماماته الخاصة، بعيد عن ذلك التوجه والدور المنوط به.

 

لماذا؟

ظنًّا منهما أن الأولاد عندما يكونون في بيوتهم، فهم بعيد عن أسباب الانحراف واجتيال الشياطين لهم؛ لذا اكتفوا بتوفير المأكل والمشرب والمأوى، ووسائل الترفيه للأولاد وأهل البيت.

 

ولا شكَّ – أيها المربُّون من الآباء والأمهات الواعين، والجهات المعنية بالتربية – أن الدور يضاعف علينا اليوم في القرن الذي نعيش فيه؛ حيث أصبح يمتاز عن غيره من القرون أنه قرن النفاذ إلى الأسرة بلا حدود ورقيب، سوى الحدود الجغرافية التي لا تمنع إلا سوى الدخول البدني للإنسان من خلال الضوابط المتبعة، والإجراءات النظامية في هذا المجال، لهذا البلد أو لذاك، وما سوى ذلك في عالمنا اليوم، فهو نافذ لا محالة إلى قعر كل بيت في الأسرة عبر التواصل الاجتماعي، والشبكة العنكبوتية، وإنترنت الأشياء وغير ذلك، مما هو كائن، ومما سوف يُستحدَث في هذا المجال.

 

وهنا يكون التحدي أيها الوالدان، وأيها المربون للمحافظة على كينونة الأسرة وبقائها على أخلاقها وقيمها ومبادئها، النابعة من مصدر عزتها وديمومتها؛ الكتاب والسنة، وما توافق معهما من أي جهة كان؛ فالحق أولى بالاتباع والانقياد، ولن يعارِض الكتابَ والسنة حقٌّ محض؛ لأنهما صالحان لكل زمان ومكان؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “كل ما يدل عليه الكتاب والسنة، فإنه موافق لصريح المعقول، وإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، ولكن كثيرًا من الناس يغلطون إما في هذا، وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده، كان عارفًا بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول، وكذلك العقليات الصريحة إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحًا، لم تكن إلا حقًّا، لا تناقض شيئًا مما قاله الرسول”.

 

وفي الختام:

إنما هذه الهمسات في هذا المساء ليوم الجمعة، إنما هي ذكرى للكاتب قبل القارئ، عسى أن تلامس قلوب الوالدين والمربين، بل والأولاد وأفراد الأسرة، فتحدث هِزَّةٌ، يستفيق منه كل ناعس، وينهض منها كل غافل عن القيام بالدور المنوط به في إحكام ذلك البناء الأسري وتماسكه، في ظل العبث اللامحدود الذي يمارسه أولئك النافذون في عالمنا اليوم.

 

وكذلك هذه الهمسات تُلهب حماس الجادِّين من الوالدين والمربين، لمزيد من العطاء والترقي للمحافظة على كينونة الأسرة وبقائها متماسكة وواعية للدور المنوط بهم، عبادة وقربة.

 

ولعل أن يكون لنا إن شاء الله مقال قريب عن الاحتياجات النفسية للأولاد الأبناء والبنات، ودورها في البناء الأسري المتماسك في قرن اللاحدود.

Read Previous

{أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم}

Read Next

الوظيفة الأهم في العالم

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *