كبت المشاعر يهدد حياتك بالخطر

كبت المشاعر يُهدد حَياتَكَ بالخطر

 

هناك من تُصْبِحُ حياتهم تافهةً، يشعرون باليأس والكآبة وبأن الحياة لا تستحق أن يعيشوها، ويشعُرون بحصار نفسيٍّ خانق، ويفقدون الأمل؛ لانعدام الحيلة تجاه موقف ما، ويبدؤون في إهمال حياتِهم، وقد يفكرون في إنهائها، ويبتعدون عن المُجتَمَع، ويلجئون إِلَى الوحدة، وكل هَذَا بسبب كبت المشاعر، وعدم التنفيس عنها.

 

أخبرتني إحدى النِّساء ممن لديها استشارة أنَّها فقدت أُمَّها فجأةً، ولديها عدد مِن الأخوة، والأخَوات، هي الكبيرة بينهم، فماذا فَعَلت كي تُخفِّف عَنْهُمْ؟ أخذت دور أُمِّها، أصبحت تُهدِّئهُم، وتُربِّتُ على أكتافهم، وتُخفِّف الحُزن عَنْهُمْ، على الرَّغم من أنَّها مِن أكثرهم حُزنًا؛ لتعلُّقِها الشَّديد بأمِّها، قامت بإخفاء حزنها حَتَّى لا تُظهِر علامات الألم أمامهم، وهي تُعاني داخلها أشَدَّ المعاناة، وعند نومهم تذهب إِلَى فناء المنزل فتبكي ألمًا وحُرقةً، بعد فترة ذهبت إِلَى بيت زوجها، لكنَّها لم تعد تُحسُّ طعمًا للحياة، وأصابها ألمُ فقد أُمِّها، حَتَّى إنَّها حاولت الانتحار عدَّة مَرَّات.

 

لماذا حصل لها كل هَذَا؟! هي قامت بإخفاء مشاعر حزنها على موت أُمِّها؛ فأدَّى ذلِكَ إِلَى كبت داخلي، ولم تعلم أنَّ ذلِكَ سيُسَبِّب لها صدمةً عميقةً، فقد زرعت بداخلها قنبلةً موقوتةً، ستنفجر في يوم مِن الأيَّام، وهو ما حصل لها بالفعل، فمشاعر الحُزن السَّلبية عِنْدَما يَتِمُّ احتباسها في النِّهاية تخرج بضغوطات نَفسِيَّة، ومتاعب جسدية؛ فتجاهُل المشاعر والاحتياجات يَكُون ككرة الثَّلج التي تتدحرج، تبدأ صغيرة، لكنها في النِّهاية تَكبُر؛ فتؤثر في من حولها، ومشاعر الحزن المكبوتة لا تعود إِلَى وضعها الطبيعي بَلْ تتطور إِلَى أن نتأثر نَفْسِيًّا وجسديًّا، وأُشبِّه تجاهل المشاعر كذلك بالجبل البُركاني الذي يُخفي الحمم داخله، فالنَّاس لا ترى هذه الحمم في الجَبَل، كَمَا لا يرون المشاعر الداخلية المخفية في الإنسان، ولكن خلف هَذَا الكيان أَلَمٌ يعصر، وفي النِّهاية يكبُر هذا الألم، ولا يستطيع الإنسان السَّيطرة عَلَيْهِ فيخرج- رغم الكبت- عَلَى شكل تصَرُّفات وآثار يلاحظها النَّاس من حولنا؛ كَمَا يلاحظون الطمي الأسود يُغطي البركان بعد أن يخمد.

 

هذه الآثار قاسية وموجعة، لا يستطيع الإنسان تحمُّلها، أو السَّيطرة عليها بنفسه؛ لأنَّهَا خرجت بدون استئذان، فلا بُدَّ لمن يعاني مِن هذه الحالة أن يَسْتَعِيْنَ بمعالج نفسي مُختصٍّ يُخفِّف عنه هذ الآلام حَتَّى يَتَغَلَّبَ عليها.

 

تتكرَّر أحداثُ هَذِهِ القِصَّة مرة أخرى، ولكن بحساسية أكثر، ويبلُغ التأثير ذروته إذا كان الإنسان حسَّاسًا، يتأثر مِن أيِّ شيء حوله، أو أنَّه يفسِّرُ ما يدورُ حوله بأَنَّهُ هو المَعنيُّ، أو أنَّه لن يَعيش أبدًا إِذا افتقد أعزَّ من يملك؛ لأنَّه اتكأ عَلَيْهِ وجعله مثل الترس يعمل بداخله ويُحرِّكه، فإذا تعَطَّل هذا الترس تعَطَّلَت حياتُه كُلُّها.

 

كان لي صديق دائمًا ما نجتمع معًا عَلَى مائدة واحدة نتبادل المشاريع والأفكار والبرامج، وأحُبُّه؛ لابتسامته الجميلة، وأخلاقه المتميزة، وصلني نبأ وفاة أخيه، فعزمت عَلَى تعزيته في الغد، فعِنْدما قمت من الصباح وجدتُ رسالةً تُفيد بأنَّ صديقي هَذَا قد توفي! عِنْدَما قرأت الرسالة لم أُصَدِّق ما رأتْ عيناي، واتَّصلتُ أُريدُ أن أوضِّح اللبس، وأُصحِّح الخطأ، فأصابني الذهول عِنْدما علمت أنَّهُمَا جميعًا قد توفيا! رحمة الله عَلَيْهِ لم يَتَحَمَّل ألَمَ الفقد؛ لِأَنَّ أخاه هو الذي كان يجمع أسرتهما دائمًا، وله كلمته في الأُسْرَة، ومحبوب بينهم، فأصابه حُزنٌ شديد، وصدمةٌ قوية، لم يَتَحَمَّل ما أصابه مِن فقد، لا سيَّما أنَّ فقد الأحِبَّة هو من أشَدِّ الأحداث المؤلمة، فلم يتقَبَّل الحدث، ولم يكن أساسًا مستعدًّا لتلقي هَذِهِ الصدمة، وأصبح في معاناة شديدة وقاسية بعد فقد أخيه، توفي عَلَى أثرها، وفي نفس اليوم الذي توفي فيه أخوه.

 

هُناكَ فارق كَبِيْر بين إدارة المشاعر وكبتها؛ فإدارة المشاعر تكُون في التَّعْبِير عنها بطريقة تُريحُ النَّفْس، وتُبعد الألم، وقد يَكُون عدم التَّعْبِير عنها صحِّيًّا إِذَا كان عن رغبة وقناعة، وليس لضغوط مُجتمعية، أمَّا كبت المشاعر فيكون بأَنَّكَ لا تَسْتَطِيع التَّعْبِير عن مشاعرك بسبب الخوف، أو بسبب ضغوطات متعددة، أو لأي سبب آخَر، ويكون الكبت وسيلة للهرب مِنْ مواجهة هَذِهِ المشاعر السلبيَّة، ومع الأسف إنَّكَ عِنْدَما تحصُر التَّفْكِير في دائرة الألم والحُزن لعدم اهتمام وتَقْصِير الشَّخْص المُقابل؛ فَإِنَّكَ تَقُوْم بلوم نفسك عَلَى شيء أَنْتَ لم تفعله، ولم تكن السَّبب فيه، فمِن المُهِم إدارة المشاعر بداخلك حَتَّى لا تتحوَّل هذه المشاعر إِلَى ألَمٍ كَبِيرٍ يسيطر على كيانك وتصرُّفاتك، وأنت غَيْر مسؤول مسؤولية أَسَاسِيَّة، ولم تكن السَّبب فيما حدث لك.

 

إِذن كبت المشاعر لا يحمينا من الألم، فلا بُدَّ لنا مِن المواجهة والبُعْد عن الكبت؛ حَتَّى لا نقع في أمور لا تُحمد عُقْباها، ومن الأمور التي تؤدي إِلَى خفض حِدَّة الكبت أسلوبُ “الفضفضة”، وَلَا بُدَّ أن تَكُوْن بحدود، وتكون موجهة، ومسؤولة؛ يتكلم الأشخاص مع أحبابهم عن مشاعرهم وعما يقلقهم، عوضًا عن كبت أفكارهم، وفي الغالب قد لا تكون من أجل اقتراح حَلٍّ، ولكن للشُّعور بالارتياح؛ لإخراج ما بالداخل، وهذا ضمن قائمة مِن (العلاج المعرفي السلوكي) الذي سيساعد في تغيير أنماط التَّفْكِيرِ، والسلوكيات السَّلبِيَّة، وتحسين الحالة النَّفْسِيَّةِ، ويمكن الاستفادة منها بزيارةٍ لمُعالج نفسي مُختصٍّ لتطبيقها.

 

ويؤثر كبت المشاعر كثيرًا في الأُسْرة، فعلى سبيل المثال عِنْدما ترى مشهدًا محزنًا لا علاقة لك به فَإِنَّك تحزَن، وقد يستمر الحُزن معك عِنْدما تتذكَّر هَذا الموقف، فما بالك بأسرة أَنْتَ فرد منها، ولا تنفك عنها، طبيعي أن تتأثَّر، ويتأثر من حولك، عِنْدما تبتسم فَإِنَّ تأثير الابتسامة يؤثِّر كثيرًا في زرع البهجة في من حولك، وعندما يحدث موقف مؤلم فَإِنَّ الجميع يتألمون، والمرأة أكثر تأثُّرًا لطبيعتها الخَلْقِيَّة ولاعتماديَّتها القوية عَلَى المشاعر والأحاسيس؛ ومن ثمَّ تَكُون أقلَّ تحَمُّلًا مِن الرَّجُل، فعندما يحدث موقف قاسٍ ومؤلم ونحن في محيط واحد، يَكُون التأثير سلبيًّا، وقد يَكُون موجعًا لا لشَخْصٍ واحد بَلْ لجميع أفراد الأُسْرَة، ومن هنا ينبغي أن نسعى لحل أيِّ مُشْكِلة تعصف بالأسرة؛ لأنَّهَا لا تتعلق بفرد واحد؛ بَلْ يتعَدَّى تأثيرها إلَى الجميع، وكلما تقدَّم الحَلُّ عادت الأُسْرَة إِلَى مسارها الصحيح.

 

وقد تحدث الْمَشَاكِل عَلَى أمور بسيطة، واختلافات طبيعية، لا تكاد تُذكَر، وبسبب الكبت تتأزَّم الحياة وتنتهي بالطلاق.

 

أذكُر قصة امرأة، حدث بينها وبين زوجها خصام عادي، وحصل بينهما عددٌ مِن المواقف التي لا تُذكر، قامت بكبتها، ولم تُعبِّر عنها، وفي حدث بسيط جدًّا، وصل بِهَا إِلَى حد الانفجار، وهذا ما نُسمِّيه في المثل العربي بـ (القَشَّة التي قصمت ظهر البعير) بعدها كَرِهَت الحياة مع هَذَا الزَّوْج كرهًا شديدًا، لم تعد تطيق مقابلته، ولا السَّماع مِنْه، وعندما طلبتُ منها الاستخارة تَقُولُ لي: “إنني أستخير، وفجأة أجد نفسي في فناء المنزل مِن غَيْر شعور”، هي تَقُولُ إنَّ مشكلتي تافهة، وهو أيضًا يَقُولُ ذلك، ولكن ما الذي أوصلهما إِلَى هَذَه الحال؟ إنَّهُ كبت المشاعر وإخفاؤها؛ حَتَّى خرجت بهذه الصورة، وعلى أمور تافهة لا تستحق أن تُذكر.

 

وقد يزيد المُشْكِلَة مستوى الحالة الصَّحيَّة؛ فقد يَكُون الإنسان مصابًا ببعض الأمراض، أو أنَّ لديه نقصًا في بَعْض الفيتامينات، فمثلًا نقص فيتامين “د” أثبت عدد مِن الدراسات أنَّ له علاقة بالحالة النَّفْسِيَّةِ، وكذلك نقص فيتامين “ب”، ومرض الغدة الدرقية، وغيره مِن الأمراض، فمن المُهِم زيارة الطبيب وعمل فحص شامل؛ لمعرفة الأسباب العضوية التي لها تأثير في هذا الصدد.

 

الحُزن أمر طبيعي، ويمُرُّ به الجميع، وإنكار مشاعر الحُزن قد يؤدي إلى إلحاق الضرر بنا مع مرور الوقت، وقد يتحوَّل -كَمَا ذكرنا سابقًا- إلى اكتئاب، فنحن بحاجة إلى وقت كافٍ لنشعر بالحزن، ونستوعب الموقف، وأول ما نقوم به هو عدم الاستسلام، وطلب المساعدة؛ لِأَنَّ الإنسان الذي يتملَّكه الحُزن؛ قد لا يستطيع أن يفيق هو بنفسه، بَلْ يحتاج إلى مَن يُمسك بيده، وكذلك فَإِنَّ هَذَا الموقف يَكُون فرصةً للشَّيطان؛ حَيثُ يسعى جاهدًا لزيادة الأحزان والهموم والوساوس، قال سُبْحانه: ﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [المجادلة: 10]، فالحزن حتى وإن كان من النجوى فَإِنَّ له أثر سيئ في الإنسان.

 

وقد أرشدنا ديننا الحنيف إِلَى علاج كُلِّ ما يُصِيْبُنا مِن هموم وغموم وآلام؛ حَيثُ قدَّم قيمًا تحافظ على التوازن النفسي، فقال سُبْحانه: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس: 57]، وقال تَعَالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82]، ويقول سُبْحانه: ﴿ قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

 

ونذكر من هَذِهِ القيم عَلَى سبيل المثال الصَّبر، يَقُولُ سُبْحانه: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، ويَقُولُ سُبْحانه: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]، فالإنسان عندما يصبر يَكُون أكثرَ سيطرة على نفسه، وأكثر تحمُّلًا لما يصيبه، ومستعدًّا لضبط انفعالاته.

 

ومن القيم الرضا بقدر الله عز وجل، ويستلزم القبول والتسليم، وانشراح الصدر، ولا يعني الصَّبر والرضا الاستلام والهزيمة؛ ولكن هُنَاكَ أمور خارجة عن السَّيْطَرة لا بُدَّ مِن التنفيس، والسماح لها بالمرور، وتقبُّل الواقع فيما لا يمكن تغييره، وبذل الجهود في ما يمكن تغييره، يقول الرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له»، (مسلم:2999)، والصلاة لها أهميَّة كبيرة في الرَّاحة النَّفسية، فقد كان صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يا بلالُ، أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها»؛ (أبو داود: 4985)، وكان صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر فزِع إلى الصَّلاة، فالصَّلاة أمرها عظيم، ولها تأثير فيمن يؤديها بخُشوع وخُضوع، وهي دواء وعلاج للأمراض النَّفْسِيَّةِ، وفيها تركيز للانتباه يُحدث انخفاضًا للتَّوَتُّر والقلق، ويعطي طاقة روحية إيجابية تبعث عَلَى الشُّعُور بالاطمئنان، بالإضافة إِلَى السكينة والهُدوء وسمو الروح.

 

تحذير صحي:

الكبت المستمر للمشاعر والعواطف قد يتسبب في أضرار شديدة على المستوى الجسدي والنفسي والعقلي، بالإضافة إلى التسبب في أمراض القلب والتَّوَتُّر والعديد من المشاكل الصحية والنفسية الأخرى.

 

Read Previous

خطوات نحو التربية الربانية

Read Next

تمكين التوجيه الطلابي بالمدارس

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *