تمكين التوجيه الطلابي بالمدارس

تمكين التوجيه الطلابي بالمدارس

 

يشهَد العالم المعاصر تحوُّلات سريعة أحدَثتها الثورات والابتكارات التكنولوجية والمعلوماتية المتتالية، التي تسببت في صناعة انفجار معرفي ومعلوماتي نتَج عن تنوُّع شبكات الاتصالات الحديثة، وتكنولوجيا المعلومات المتطورة، وتعدُّد قنوات الاتصال مع الآخرين في ظل التحوُّل الرقمي الذى ألقى ظلالَه على كافة المؤسسات؛ مما أسهَم في تحقيق إنجازات متعددة في كافة المستويات، وقد أسهم توفُّرُ المعلومات والأدوات التقنية في جعل المؤسسات عامة والمؤسسات التعليمية خاصة قادرةً على تجاوُز حدود الزمان والمكان، وقادرة في الوقت ذاته على مواجهة معوِّقات الابتكار والسعي قدمًا نحو مستقبل أفضل، من خلال تطوير جميع آليات العمل؛ لتُصبح مواكبةً لكافة المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفنية، لتحقيق التحولات الإستراتيجية التي تُمكنها من بناء متعلم قادرٍ على مواجهة التحديات والمتغيرات المعاصرة.

ويُعد التوجيه الطلابي من أبرز الأدوات التي تستعين بها المؤسسات التعليمية لبناء طلاب قادرين على مواجهة التحديات المعاصرة، وذلك لما يوفِّره التوجيه الطلابي مِن دعم للطلاب في اتخاذ القرارات التعليمية والمهنية والشخصية، ويساعدهم ـ كذلك ـ في تحقيق التوازن بين أهدافهم واهتماماتهم وقدراتهم الفردية، ويقدِّم لهم المعلومات والمشورة والتوجيه العملي، ويوفِّر لهم كافة وسائل الدعم والإرشاد النفسي والاجتماعي، لتحقيق نجاحهم الأكاديمي والشخصي، من خلال تعزيز التوازن النفسي والاجتماعي والعاطفي، وتطوير مهاراتهم وقدراتهم الشخصية، ولا يقتصر دورُه عند هذا الحد، وإنما يتجاوزه إلى تقييم سلوكيات الطلاب، وتحديد احتياجاتهم النفسية والاجتماعية، من خلال استخدام الأدوات والتقنيات المناسبة لفَهْم نقاط ضَعفهم وقوتهم، وتوجيه الدعم اللازم لهم، وتعديل السلوكيات غير المرغوبة.

 

فبرامج التوجيه والإرشاد من أساسيات العملية التعليمة والتربية على حد سواء؛ نظرًا لدورها الرائد في تحقيق التوافق والاستقرار النفسي لدى المتعلم (الطالب)، ولهذه الأهمية الكبيرة لبرامج التوجيه أصبح حتمًا عليها أن تكون مسايرة للتغيرات، ومواكبةً للتطوير في النهج والأسلوب المستخدم، ولو أمعنَّا النظر لبرامج التوجيه والإرشاد في التعليم العام في الوقت الراهن، نجد هناك اضطرابًا واضحًا وازدواجية في معاييرها؛ من حيث طبيعةُ البرامج وفئاتها العمرية المستهدفة، وعدم تناسُبها مع خصائص الطلاب، واستعداداتهم النفسية والعمرية، فالمطلع على برامج التوجيه يَجدها لا تفرِّق في تطبيقها ونوعية برامجها بين طلاب المرحلة الابتدائية (الطفولة المبكرة – الطفولة المتأخرة)، وطلاب المرحلة المتوسطة (مرحلة المراهقة)، وكذلك طلاب المرحلة الثانوية (مراهقة متأخرة – مرحلة الرشد)، على الرغم من وجود فروق شاسعة بين هذه الفئات العمرية المختلفة، لكن البرامج الإرشادية تُطبَّق في الميدان في مختلف المراحل بوصفها عملًا متوازيًا، وليس بوصفها عملًا متكاملًا، ويبقى الاختلاف في أسلوب الطرح للمسترشد، وهذا يجعلنا بحاجة ماسَّة إلى إعادة النظر في هذه البرامج التي لا تتناسب مع استعدادات الطلاب النفسية ولا العمرية؛ مما يستوجب على المعنيين بالقرار إحداثُ التغيير والتطوير، وإعادة هيكلة البرامج الإرشادية وتطويرها، وتكوين منظومة إرشادية مبنية على أساس التكامل بين المراحل، مراعيةً في ذلك الخصائص والاستعدادات النفسية، والخصائص العمرية للطلاب.

 

ولم يقتصر الأمرُ على ما سبق، وإنما يتجاوزه، وتستمر العشوائية في طرح البرامج التوجيهية والإرشادية، من خلال البرامج الإرشادية بين أرْوقة المدارس، فنجد هذه البرامج من بدايتها إلى نهايتها ـ ابتداءً من الأسبوع التمهيدي بالصف الأول الابتدائي إلى برامج توديع الخرِّجين في الصف الثالث ثانوي ـ برامج نمطية مكرَّرة لا جديد فيها، فهي تفتقد إلى الرؤية المصيبة، وتظهر بصورة جلية تُناسبها مع هذا العصر الراهن بثوراته الرقمية المتجددة ومتغيراته اللامحدودة، واستعدادات الطلاب الكبيرة، واتساع أُفقهم في ظل موجات العولمة التي جعلت العالم بأكمله قريةً صغيرة، وهذا يظهر عورات هذه البرامج التي لا تقي الطلاب هذه المخاطرَ المحيطة بهم، ولا تفي بالغرض ولا تحقِّق أهدافها المزعومة، ولا تثير دافعية الطلاب لكونها في غالبيتها قد كرِّرت على الطلاب أنفسهم مدةً تجاوزت (12) عامًا دراسيًّا، ويعد هذا خللًا جوهريًّا، فالطلاب لن يتفاعلوا مع هذه البرامج، ومِن ثَم تفقد البرامج تأثيرها في سلوكهم، وتصبح مجرد تقليدٍ لا جديد فيه.

 

ويستمر الخللُ في انتقاء البرامج التوجيهية والإرشادية، لدرجة تجعل البرنامج التوجيهي يشكِّل خطرًا على استمرارية تعلُّم الطلاب، ويتضح ذلك من خلال البرامج التي تَم طرحُها لطلاب المرحلة الابتدائية والمتعلقة بالإرشاد المهني، وهي – في جوهرها – لا تتناسب مع هذه المرحلة العمرية للطلاب، لما قد ينتج عنها مِن تسرُّب للطلاب من الدراسة إلى العمل في مرحلة مبكرة من العمر، وهذا لا يتوافق مع سياسات التعليم في المملكة العربية السعودية.

 

إن المشكلة الحقيقة التي تواجه الموجِّهين الطلابيين في المرحلة الابتدائية، ليست المواقف اليومية، ولا تدني مستويات الطلاب، ولا دعم أو تطبيق البرامج الإرشادية، إنما هي في تصوري نابعة من عدة عناصر؛ أهمها:

1- فرط الحركة وتشتُّت الانتباه؛ (مرحلة الابتدائي).

2- التنمر؛ (مرحلة الابتدائي).

3- ضعف زراعة القِيم الخُلقية؛ (مرحلة الابتدائي).

4- التوجيه والإرشاد الاجتماعي؛ (مرحلة المتوسط).

5- التوجيه والإرشاد المهني؛ (مرحلة الثانوي).

 

ونظرًا لاستحداث مسمى وكيل شؤون الطلاب، فبإمكانه العمل بمتابعة التأخر الدراسي أو التفوق الدراسي، وذلك للتداخل الحاصل في عمل الموجِّه الطلابي، ووكيل شؤون الطلاب، وكذلك الاستفادة من الموجِّه الطلابي، ووجوده في متابعة الحالات التي تزيد أعدادُها باستمرار في الفترة الزمنية الأخيرة، لأسباب عديدة منها الطبي والوراثي والاجتماعي والعولمة … إلخ.

 

إن دور الموجه الطلابي بالمدارس يتسامى عن الأدوار المكلَّف بها داخل المدارس، وتُحيله إلى موظف إداري نمطي يقتصر دورُه على تعبئة السِّجلات والقيام بالبرامج النمطية، وترْكه لصميم عمله في متابعة الحالات السلوكية، وتقويم سلوكيات الطلاب، وخاصة في ظل هذا الانفتاح المعرفي، وتعدُّد الانحرافات السلوكية داخل المدارس، وغياب التقييم الحقيقي للواقع، في ظل غياب الدراسات الكافية والدقيقة بأعداد المصابين من الطلاب التي ظهرت بصورة كبيرة داخل المدارس، ووقوف الأسرة عاجزة أمام علاج الأبناء وتعديل سلوكياتهم؛ لذا أرى أن الحل الناجز لحل هذه الثغرات، هو توجيه الموجِّهين داخل المدارس إلى رصْد هذه الحالات، واعتماد مقياس موحَّد لفرْط الحركة وتشتُّت الانتباه في الصفوف الأولية، وفرز المصابين وإكمال الرعاية السلوكية الخاصة بهم، وبناء البرامج الإرشادية وَفْق معايير تُعالِج هذه الظواهر، وتراعي في الوقت ذاته الخصائصَ العمرية للطلاب، واستعداداتهم لتعديل السلوكيات غير المرغوبة، ومساعدتهم في التوافق مع متطلبات المجتمع.

 

وفي الختام لم يبقَ أمامي إلا تساؤل أطرَحه على مسامع المعنيين ببرامج التوجيه الطلابي: إلى متى يُصبح عمل التوجيه الطلابي عملًا إداريًّا يقوم به مَنْ لا يُدرك أُسسه ومقوماته؟ أما آن الأوان أن نَضَعَ ضوابطَ لمن يترشَّح للعمل في مجال التوجيه الطلابي للقيام بدوره الجوهري، وهو علاج الانحرافات السلوكيات، وليس التوعية والوقاية كما هو الآن.

 

إن الموجِّه الطلابي هو الأساس المتين لتحقيق توجيهٍ إرشادي قادرٍ على مواجهة الانحرافات السلوكية، ومتابعة الحالات المرَضيَّة، وإرشاد الأسرة، والأخذ بيده لتحقيق الصحة النفسية والسلوكية للأبناء، وهذا لا يتأتَّى إلا من خلال موجِّهين طلابيين مُدركين لطبيعة عملهم، ومُلمين بأُسسه وقواعده، وقادرين في الوقت ذاته على تطبيق أدواته، وإن لم يحدُث هذا فلا أملَ يُرْجَى.

Read Previous

كبت المشاعر يهدد حياتك بالخطر

Read Next

تفاوت الأولاد في الذكاء وعلو الهمة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *