الانبهار بالحضارة الغربية المادية (4)

الانبهار بالحضارة الغربية المادية (4)

التصوُّر الإسلامي للحضارة:

لمفهوم الحضارة في التصوُّر الإسلامي خصائِصُ وسِمات مغايرة للحضارة الغربيَّة الماديَّة؛ ففي حين لم تَرفَع الحضارة الغربية للأخلاق وتهذيب النفوس رأسًا، وفي حين اقتَصرَت الحضارة الغربيَّة على البناء والتعمير الدنيوي فقط، وفي حين قامَتْ تلك الحضارة الغربيَّة على تحقيق مَصالِح أصحابها وأطماعهم، وفي حين سَيْطرت تلك الحضارَة على صُنَّاعها فأفقدَتْهُم إنسانيَّتهم، وفي حين غرَّت الحضارة الغربيَّة أصحابَها وأبعدَهُم تقدُّمُهم المادي عن خالقهم ومُدبِّر شؤونهم.

 

في حين كانت تلك حقيقة الحضارة الغربيَّة، جاء التصوُّر الإسلاميُّ لمفهوم الحضارة شامِلاً جامِعًا واضِحًا؛ جاءَ شاملاً لمطالب الإنسان الجسديَّة والروحيَّة، الدينيَّة والماديَّة، التطلُّعيَّة والفطريَّة، الدنيويَّة والأخرويَّة، كما جاءَ جامعًا لإقامة الأخلاق بجانِب الأعمال، وإصلاح البَواطِن بجانب الظَّواهِر، وجاء واضِحًا يُجلِّي لأتباعه غاية العمل ومشكلاته.

 

ولا غرو أنْ يأتي التصوُّر الإسلامي بتلك الشموليَّة الجامعة الواضحة، فمصدره خالِقُ الكون، الذي أحسَنَ كلّ شيء خلقه.

 

وتتبُّع خصائص التصوُّر الإسلامي للاستِخلاف في الأرض ثم للحضارة المبنيَّة عليه – أوَّلُ خطوات البِناء، وسبيل النَّجاة من التبعيَّة المعنويَّة للحضارة الغربيَّة:

الاستخلاف وظيفةٌ من وظائف العبودية:

تلك أوَّل خصيصةٍ للتصوُّر الإسلامي للبناء الحضاري؛ فالمسلم مُستَخلَفٌ في الأرض لتتمَّ له الحياة التي بها يستَعِين على عبادة خالِقِه، وبهذا كان استِخلافُه عبادةً.

 

قال الله – تعالى -: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، وغيرها من الآيات.

 

وتصوُّرُ المسلم أنَّ بناءَه وتشييدَه الحضاري عبادةٌ يُؤجَر عليها – خيرُ دافِعٍ لتقدُّمِه وبذل كلِّ جدِّه، كما أنَّه خيرُ دافِعٍ لتصحيح مَسارِه العملي، فهو يَعمَل بأعيُنِ الله – تعالى – فلا يَشُوب عملَه فسادٌ أو هوًى يَمِيل به عن غايَتِه، كما أنَّ هذا التصوُّر يصبغ الحضارة الماديَّة صبغة الروح، فلا تَطغَى ماديَّتها على الإنسان المكوَّن من جسَد ورُوح.

 

والذين تصوَّروا أنَّ الدِّين يقف مُخاصِمًا للتقدُّم الحضاري، إنما تشبَّعوا بهذا نتيجةَ موقفِ الكنيسة من العلم الحديث في القرون الوُسطَى، أو من قِبَل مُصادَمة بعض المذاهب الدينيَّة لسنن الله – تعالى – الكونيَّة والشرعيَّة، كما جنت الصوفيَّة برهة من الزمان على العقول والجهود، وعاقَت المسلمين عن اللَّحاق بالرَّكب الحضاري في القرنَيْن الماضيَيْنِ.

 

الاستخلاف قائمٌ على موافقة سنن الله – تعالى – الكونيَّة والشرعيَّة:

فكما قدَّر الله – تعالى – لكلِّ شيءٍ سببَه، قدَّر لتحقيق الاستِخلاف وقِيام الحضارات سننًا، متى وافَقَها العامِلُون تحقَّق مطلوبهم، ومتى أعرَضُوا عن بعضِها لم تكتَمِل مهمَّتُهم في الأرض.

 

ومُوافَقة سنن الله – تعالى – الكونيَّة تعني: الأخْذ بالأسباب الحسيَّة الظاهِرة، فالعمل والجدُّ والنِّظام، من أسباب التقدُّم والتشييد، وهي كلُّها أسبابٌ ظاهرة أُنِيطَ بها كلُّ نجاح على الأرض.

 

والإيمان بالله وطاعته في أوامره ونَواهِيه هي السَّير على السنن الشرعيَّة؛ ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]، وقد أهلَكَ الله أُمَمًا من قبلنا وأبادَ حضاراتهم؛ لعِصيانهم أوامرَه، وركوبهم نواهِيَه، كما ذكَر – تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 15 – 17].

 

كما عاقَب – تعالى – أهلَ تلك الحضارة الغربيَّة الماديَّة المُعاصِرة بمزيدٍ من الأوجاع النفسيَّة والحسيَّة، وإنَّا لمنتَظِرون.

 

ومن هذَيْن التصوُّرَيْن لحقيقةِ الاستِخلاف في الإسلام بُنِي التصوُّر الإسلامي للحضارة، فكانت الحضارة الإسلاميَّة:

حضارة عالميَّة:

فلمَّا كانت رسالة الإسلام رسالةً عالميَّةً، كانت حضارته كذلك عالميَّةً؛ يقول ربنا – تبارك وتعالى -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، ويقول – تعالى -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [سبأ: 28].

 

“فحضارة الإسلام إنسانيَّة في نزعتها، عالميَّة في آفاقها وامتِداداتها، لا ترتَبِط بإقليمٍ جغرافي، ولا بجنسٍ بشري، ولا بمرحلةٍ تاريخيَّة، ولكنَّها تحتَوِي جميعَ الأُمَم والشُّعوب، وآثارها مُوجَّهة إلى مختلف البِقاع والأصقاع؛ فهي حضارةٌ يستظلُّ بظلالها البشر جميعًا، ويَنعم بدِفئِها كلُّ مَن وصَل إليه عَطاؤها، وصِبغة العالميَّة هي التي ترسخ وتُؤصِّل لقِيَم الحقِّ والخير والعدل والمساواة بين الناس جميعًا، دُون النَّظَر إلى ألوانهم وأجناسهم، فلا تُؤمِن بنظريَّة التفوُّق العنصري أو الاستِعلاء الجنسي”؛ [“ماذا قدم المسلمون للعالم؟”].

 

حضارة الأخلاق:

من شموليَّة التصوُّر الإسلامي للحضارة أنْ جُعِلت الأخلاق ركنًا أساسًا من أركان حضارة الإسلام؛ يقول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنما بُعِثت لأُتَمِّم مَكارِم الأخلاق))، وفي رواية: ((صالح الأخلاق))؛ [الحاكم والبيهقي وابن سعد وغيرهم من حديث أبي هُرَيرة، وصحَّحه الألباني في “صحيح الجامع”].

 

بل من مُنطَلق الدَّعوة إلى الأخلاق تَقُوم الحضارة الماديَّة في الإسلام، تَقُوم على العدل وعلى الرحمة، تقوم على الإيثار وعلى المودَّة، تقوم بلا ظُلمٍ أو فجور، تقوم بلا تجبُّر على العِباد، أو إفسادٍ في البلاد.

 

وفي أعظم المحكَّات التي تُنتَهك فيها الأخلاق انتِهاكًا؛ محك الحرب وميدانه – كان للإسلام تصوُّر آخَر غير الذي قامت عليه الحضارة الغربيَّة؛ من انتِهاك خَيْرات الشعوب، وإبادة بعضها، واستعمار باقيها، تصوُّر مبنيٌّ على أخلاق فَرِيدة، تَعجِز النفسُ عن حملها في السِّلم وفي الرضا وفي المُصادَقة، فضلاً عن الحرب والمعاداة والمقاتلة.

 

حضارة الوسطيَّة والتوازُن:

فالوسط هو العدل، والتوازُن يعني: الاعتدال، ومن السِّمات الخاصَّة بالأمَّة الإسلاميَّة الوسطيَّة والتوازُن، والمعنى: ألاَّ يَطغَى جانبٌ من الجوانب فيها على الآخَر، فللرُّوح نصيبٌ كما للجسد نصيبٌ، وللعلم الشرعي قدرُه كما للعلم الإنساني قدرُه، بل لقدرة الإنسان البنَّاء مكانها، ولاستِعانته بخالقه مكانها؛ ((استَعِن بالله ولا تَعجِز))؛ [مسلمٌ من حديث أبي هُرَيرة]، وهكذا جاء التصوُّر الإسلامي للحضارة.

 

وبهذا كانت حضارة الإسلام وسطيَّةً مُعتَدِلةً، غير منحَرِفة لطرفٍ على حساب الآخَر، كما هو حالُ الحضارة الغربيَّة الماديَّة التي جدَّت لإحياء الجانب المادي – بعد ركسته على يد الكنيسة – وإنْ قتلت في سبيله الجانب الرُّوحي.

 

عود على بدء:

فإذا كانت تلك أهمَّ خصائص التصوُّر الإسلامي لخلافة الإنسان في الأرض، ولأثَر عملِه وبنائِه حسب تلك الخلافة فيما يَبنِي من “حضارة”، فللمسلم إذًا أنْ يبهر بتلك الحضارة التي تحقَّقت على أرض الواقع بتصوُّراتها الفذّة، تصوُّراتها التي جاءَتْ لتعمل ولتكون واقعًا مُشاهَدًا حَيًّا في حقبات من تاريخ الأمَّة.

 

نعم، وقَع التفريطُ في تحقيق تلك التصوُّرات إلى واقِعٍ في الحقبة الأخيرة، ثم زادَتِ الفَجوة اتِّساعًا بعد تَوالِي أسباب التأخُّر على غالبيَّة الأمصار الإسلاميَّة، لكن مع كلِّ هذا بقي التصوُّر الحضاري محفوظًا بحفظ الإسلام، فإنْ نَهَضَ المسلمون وعالَجُوا الواقِع ومشكلاته، قامَتْ حَضارتهم تُرَفرِف في الآفاق ثانيةً.

 

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

Read Previous

الفارق العمري الكبير بين الزوجين

Read Next

مصعب بن عمير الشاب الغني

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *